Add me on facebook

موضوع 1

رسالة.

موضوع 2

رسالة.

موضوع 3

رسالة.

موضوع 4

رسالة.

موضوع 5

رسالة.

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

اكتساب العلم والمعرفة

اكتساب العلم والمعرفة

Knowledge & Science Acquisition  

        اكتساب العلم، هو ما نُطلق عليه عملية التعـلم Learning ، وهو مرور الإنسان بخبرات معينة، تغيّر في سلوكه. وتلك الخبرات، هي العملية التعليمية، سواء تمّت في إطار منهج دراسي وخطة دراسية، أو من خلال موقف حياتي، أضاف إلى الشخص ما يجعله يعدل من سلوكه. ولا شك أن ما يتعلمه الإنسان من المواقف الحياتية اليومية، يفوق كثيراً ما يحصّله من تعلم خلال سنوات الدراسة؛ ذلك أن الخبرات الحياتية مستمرة طوال حياة الشخص، بدءاً من ميلاده وانتهاء بوفاته. وما يكتسبه الإنسان، خلال عملية التعلم، يُقسم إلى ثلاث نواحٍ أو مجالات أساسية. وهي:
  1. المجال المعرفي (Knowledge Cognition).
  2. المجال المهاراتي، أو ما يسمى: النفس ـ حركي (Skill Psycho-Motor).
  3. المجال الانفعالي، أو ما يسمى: الاتجاهات أو القِيم. Emotion Attitudes & Values
   وعملية التعلمLearning  التي تشتمل هذه المجالات، هي عملية تتكيف فيها نماذج استجابة سابقة مع تغيرات بيئية جديدة. وينطوي التعلم على تعديل سلوك الشخص وإعادة تنظيمه (بما في ذلك تعديل إدراك الفرد واتجاهاته وصورته الذاتية)، كما ينطوي التعلم على تغيرات دائمة نسبياً، تطرأ على السلوك وتكون محصلة التكرار أو الممارسة.
أولاً: المجال المعرفي
        ويُقصد به تحصيل المعلومات، على المستوى العقلي فقط، من مفاهيم أو قوانين أو مبادئ نظرية بحت، من دون تطبيق. وللمجال المعرفي مستويات للإجادة في تحصيل المعلومة. أدناها هو مستوى التذكر، والقدرة على استدعاء المعلومة، كما هي، مثل مَن حفظ نظرية (بديهية) هندسية، ويطلب منه إعادتها، كما سجّلها في وظيفة الذاكرة، في عقله، فيذكرها كما حفظها. ويعلو هذا المستوى من المعرفة مستوى التفهم، الذي يصبح الشخص فيه، قادراً على فهْم ما سجّله في ذاكرته، ويعرف كيف يشرحه ويوضحه، ويفهم النتائج المترتبة عليه، مثل من حفظ النظرية الهندسية وشرحها وفهْم نتائجها. ويعلو هذا، كذلك، مستوى حل المشكلات، إذ يمكن الشخص أن يطبق ما حصّله من معرفة، اختُزنت في ذاكرته، في حل المشكلات التي تواجهه، كاستخدام الطالب للنظرية الهندسية في حل المشكلات الهندسية التي تواجهه. ثم يعلوه مستوى آخر من المعرفة، هو مستوى التحليل العميق للمعرفة، إذ يصبح لدى المتعلم قدرة على تحليل ما اختزنه في ذاكرته، واستنباط تطبيقات له لم تكن معروفة من قبْل. وهذا المستوى، يُعَدّ ابتكارياً مما سبق تحصيله من المعرفة. مثل الطالب الذي استنبط وسائل جديدة لتطبيق النظرية الهندسية، التي سبق أن اختزنها في ذاكرته، بعد أن فهِم وحلل مكوّناتها، مكتشفاً علاقات جديدة، يطبق من خلالها النظرية في مجالات جديدة أو بطرائق جديدة. وهناك مستوى آخر، ربما لا يكون، بالضرورة، أعلى من المستوى السابق، وهو مستوى تقويم المعرفة، والحكم على قِيمة المادة العلمية أو المعرفة المكتسبة، وذلك في ضوء محكات تقويم موضوعية.
        ولقد مرت المعرفة بعصور كانت فيها محدودة، إلى درجة أن عالماً واحداً، كان يمكنه أن يلمّ بما هو معروف في مجالات: الدين والفلسفة والطب والرياضيات والفلك. ومع مر العصور، تراكمت المعارف، واتسعت العلوم، وأصبح كل علم، يشمل عدة فروع، وكل فرع فيه، من التخصصات الفرعية، والدقيقة، العديد. فمثلاً، الطب قسِّم إلى أفرع رئيسية، أول الأمر، البشري والبيطري وطب الأسنان. ثم قسِّم كل منها فروعاً متخصصة، مثل الأمراض الباطنية، التي قسّمت إلى الطب النفسي، وطب الأعصاب، والأمراض الجلدية والتناسلية، وطب المناطق الحارّة، وطب الأطفال، والروماتيزم، والطب الطبيعي. ثم بزغ من كل تخصص من تلك التخصصات تخصصات أخرى دقيقة. فمثلاً، الطب النفسي، برز منه طب نفس الرضَّع، وطب نفس الأطفال والمراهقين، وطب نفس كبار السن، والطب النفسي الشرعي، المختص بالجرائم ذات البعد العقلي، والطب النفسي الاجتماعي، والطب النفسي البيولوجي. من ذلك، يمكننا أن نتخيل حجم المعارف المتراكمة عبر العصور. وكل يوم، تضيف مراكز الأبحاث ومعاهد العلم، الجديد من الاكتشافات أو الابتكارات، أو إيجاد علاقات جديدة. مما أدى إلى تضخم معرفي، لا يمكن العقل البشرى استيعابه، ولو في تخصص واحد. لذلك، فإن طرائق التعليم الحديثة، ينبغي أن تتوجه إلى تعليم الطالب كيف يصل إلى المعلومة، ويحصل عليها، بدلاً من أن يحفظ معلومات في ذاكرته، ويجهد نفسه في حفظها، ثم ينساها، أو يجد أنها أمست غير مفيدة، لظهور الجديد، الذي يفقدها قِيمتها التطبيقية. كما ينبغي أن يقتصر التحصيل، في الجانب المعرفي، على ما له قيمة تطبيقية فقط، من دون الحشو، الذي لا طائل فيه، سوى إجهاد الطالب، وحرمانه من وقت الفراغ، الذي يمكن أن يمارس فيه رياضة بدنية، يبني بها جسمه، في عصر ضعفت فيه الأبدان، لِقِلة الحركة وضيق الوقت لممارسة الرياضة.
ثانياً:  المجال المهاراتي  (النفس ـ حركي):
        وهو مجال أداء المهام المختلفة، حركياً، وصولاً إلى مستوى الفعل الهادف، الذي يحدث تغييراً في البيئة. مثل الضرب على مفتاح الآلة الكاتبة (أو الحاسب الآلي) لكتابة حرف، فهذه مهارة، ويلزم لها مراحل، حتى يتم اكتسابها. تبدأ برؤية المتعلم معلمه، يؤدي تلك المهارة، فيلاحظه، ثم يحاول تقليده في أداء مهارة الكتابة على لوحة مفاتيح الحاسب. ثم بتكرار التدريب، مع تمثُّل التعليمات المعطاة في داخله، يصبح مؤدياً بمهارة، إلى درجة من السيطرة ووعي الأسس والتعليمات، التي أعطيَها. ولكن استمرار التدريب، يصل به إلى التلقائية في الأداء، من دون محاولة تذكر تعليمات الإجادة. ذلك، لأن الإجادة أصبحت تلقائية. وأوضح مثال لذلك، تعلّم قيادة السيارات، كمهارة أو مجموعة من المهارات اليدوية والجسدية، يكمل بعضها بعضاً، لتحقق هدفاً، وهو قيادة السيارة. في البداية، يجلس المتعلم إلى جوار المعلم، فيلاحظه، ويستوضحه ما يَعِنّ له فهْمه. ثم يدخل مرحلة التقليد، ومحاولة قيادة السيارة. ثم يحاول الإجادة، مستعيناً بالتعليمات التي أعطيَها، ومركزاً كل قدراته العقلية، وصولاً إلى الإجادة في قيادة السيارة. وإذ كلّمه شخص إلى جواره، فإنه لا يستطيع التركيز معه، إلا إذا أوقف السيارة. ثم ينتقل إلى مرحلة التلقائية والمهارة في أداء قيادة السيارة، فيقودها وهو يتحدث إلى شخص، يجلس إلى جواره، في موضوع يحتاج منه إلى درجة عالية من التركيز، من دون أن يؤثر ذلك في قيادته للسيارة، لأن المهارة وصلت إلى درجة التلقائية.
ثالثاً: المجال الانفعالي
        ويقصد به الاتجاهات والقِيم الداخلية، التي تحدد مواقف الشخص المختلفة. ويمر المتعلم، في المجال الانفعالي، بمراحل عدة، فيدرك، بوساطة الفهْم، في المجال المعرفي، قِيمة أو اتجاهاً ما، ثم تقبّل ذلك الاتجاه أو تلك القِيمة، واستحسانهما، داخلياً، عن رضا، لا عن خوف. ثم يصل إلى درجة القناعة الداخلية التامة بتلك القِيمة أو ذلك الاتجاه. فتصبح القِيمة مرتبطة بشحنة انفعالية، ثم تأخذ مكانها في النظام الداخلي لقِيم الشخص، وتصبح جزءاً من تكوينه، إلى درجة أنها (أي القِيمة) تصبح من ميزات الشخص، ذات البعد الانفعالي. مثال ذلك الشخص الذي يعرف أهمية احترام رأي الكبار، ثم يتفهم أهمية ذلك في التعلم من خبراتهم، فيقبَله، كاتجاه، في تعامله مع الكبار، ثم يستحسنه، داخلياً، ويصل إلى درجة القناعة الداخلية بهذا الاتجاه في التعامل، مع ربطه بالانفعال، ليصبح جزءاً من النظام القِيمي المميز للشخص.
        وهناك طرائق للتعلم، يحصل بها الإنسان أيّاً من تلك المجالات الثلاثة، المذكورة سابقاً، أهمها:
        1. التعلم بالمحاولة والخطأ `Trial and Error Learning`
إذ يجرب الشخص سلوكيات مختلفة، وصولاً إلى ما يريد. فإذا نجح في ذلك، فإن هذا يُعَدّ تعزيزاً للسلوك، خاصة إذا كانت النتيجة مكافأة، فيكرر السلوك وصولاً إلى المكافأة. أمّا إذا كانت النتيجة مؤلمة (عقاب)، أو إحباط، فإن ذلك يقلل الحافز الداخلي لتكرار المحاولة، أي تكرار السلوك، فينطفئ، ويتم تجنّبه. وهكذا، فإن نتيجة السلوك، إمّا أن تدعمه، فيصبح سلوكاً مرغوباً فيه، لِما يكمن خلْفه من مكافأة، وإمّا أن تحبطه فيصبح سلوكاً مرفوضاً. ومثال ذلك الطفل الذي يبكي، فيلفت انتباه أمه، فيتعلم أن البكاء يلفت انتباه الأم، ويؤمن حاجته، وذلك من طريق المحاولة. وكذلك، الطفل الذي يعيش مع أفراد أُسرته، ويقوم بأولى محاولاته للمشي، عند نهاية عامه الأول، إذا شجّعه أفراد الأُسرة، وأظهروا استحسانهم محاولاته، فإنه سيستمر، يحاول ويخطئ، إلى أن يتعلم المشي، وسط نظرات الاستحسان وعبارات التشجيع. أما إذا وجد الزجر والعقاب، وعبارات انفعالية استنكارية لِما يقوم به من محاولات، فإنه سيكفّ عن محاولات المشي. ومثل ذلك تعلم الطفل الكلام، حينما ينطق كلمة ماما، في أول الأمر، كمحاولة، وكذلك تعلمه التحكم في المخارج، وتعلمه تناول طعامه بنفسه. كل هذه عادات ومهارات، يتعلمها من طريق المحاولة والخطأ، بعد ملاحظتها تؤدَّي بوساطة الآخرين. وهي الطريقة الثانية من طرائق التعلم.
        2. التعلم بالملاحظة (متعلق بالملاحظة أي المعاينة أو الرصد )Observational Learning
إذ يلاحظ الإنسان سلوكاً ما، ثم يحاول تقليده أو محاكاته. فهو يلاحظ السلوك ويفهم مكوّناته، ويختزنها في ذاكرته، ثم يحاول أداءها. ونجاح الشخص في أدائه للمهمة، يُعَدّ مكافأة له، خاصة إذا نال استحسان المحيطين وتشجيعهم. وفشله في أداء المهمة، قد يحبطه، ويجعله يتجنب أداءها مرة ثانية. وكذلك رد فعل المحيطين المحبِط، أو ما يناله من عقاب على سلوكه، سيطفئان رغبته في أداء هذا السلوك، خاصة إذا تكرر الفشل أو العقاب.
        3. التعلم من طريق الاستبصار Insightful Learning : 
إذ يُدرك الشخص الظروف المحيطة به، ثم يعيد ترتيبها، داخله، ليفهم العلاقات بينها، ويغيّر ذلك في سلوكه، لأن التعلم، كما سبق أن وضحناه، هو مرور الشخص بخبرة تعدل في سلوكه. ومثال ذلك مَن أدرك ما يسببه الإدمان من هلاك للمدمنين، وتدمير لصحتهم، واستنبط أن الإدمان يبدأ بالتدخين، فاستبصر بذلك، وتجنّب التدخين والإدمان. وكلما ازدادت خبرته بالآثار السيئة للإدمان، خلال معايشة المدمنين، ازداد استبصاره.
        ويُلاحظ أن ما يتعلمه الإنسان من خبرات، يستطيع أن يُعممه في المواقف المشابهة. وأن التعلم يحتاج إلى درجة من النضج في الجهاز العصبي، مثل تعلم الطفل المشي، أو التحكم في مخارجه. والتدريب على سلوك ما، قبْل النضج المناسب للجهاز العصبي، لا يأتي بالنتيجة المرجوة. مثل تعليم طفل الكتابة، قبل النضج الكافي لتعلم مهارة الكتابة، تكون نتيجة ذلك إحباط الطفل، وقد يكره الكتابة، بعد ذلك. ونضج الجهاز العصبي وسلامته، يرتبطان كذلك بسلامة أجهزة الحس والقدرات العقلية.
        ويلزم وجود دوافع إلى عملية التعلم، فثمة دوافع أولية، وهي ما يوجد لدى الإنسان، فطرياً، وتهدف إلى المحافظة على حياته ونوعه، مثل تعلم تناول الطعام، بدافع المحافظة على الحياة، وتعلم السلوك الجنسي، بدافع الحفاظ على نوع الإنسان. وهناك دوافع ثانوية، وهي وثيقة الارتباط بالتكوين النفسي، مثل الرغبة في التفوق، في مجال ما، من دون غيره من المجالات.
        وهناك بعض الأسس، التي يمكن أن تُحفز (تنبه أو تثير) Stimulate  عملية التعلم، وتُضاعف من ثمارها. وهي:
  1. أن يكون المتعلمLearner  مشاركاً إيجابياً في العملية التعليمية، وليس متلقياً سلبياً.
  2. أن يندمج، وجدانياً، في ما يتعلمه. فحبه للمادة التي يتعلمها، سيزيد من تحصيله لها.
  3. أن توضح له القيمة التطبيقية لِما يتعلمه.
  4. أن يحصل على نتائج مباشرة لِما تعلمه، ويكافأ، دعماً لعملية التعلم.
  5. أن يكون ما يتعلمه مناسباً لحاجته، ومشبعاً لها.
  6. أن يوضح له الأهداف التعليمية، المطلوب إنجازها.
  7. أن تكون طريقة التعلم مناسبة للهدف، المراد تعلمه. فمثلاً، إذا أردنا تعليم شخص قيادة السيارات، لن يجدي أن يعطى محاضرة في قيادة السيارات، ولكن الأجدى أن يلاحظ شخصاً يقود سيارة، ثم يقوم بمحاكاته وأداء مهارة قيادة السيارة.
  8. أن يكرر ما سبق تعلمه، ليصل إلى درجة التلقائية في الأداء. ولهذا، قِيل (أن التكرار يعلم الحمار).
  9. أن يحب المتعلم شخص المعلم، مما يقوّي عملية التعلم. ويُلاحظ ذلك عندما يحب التلميذ مدرساً ما، فإنه يصبح متفوقاً في المادة التي يدرسها هذا المدرس.
وهذه الأسس، وكذلك طرائق التعلم، تُطبق في أي من مجالات التعلم الثلاثة: المجال المعرفي والمجال المهاراتي (النفسي ـ حركي) والمجال الانفعالي.

السعادة

السعادة


          السعادة هي شعور بالبهجة، المصحوبة بالرضا، ويتلاشى معها الصراع الداخلي، فيشعر الفرد بالطمأنينة. وتتحقق السعادة عندما تشبع الحاجات، وتحدث التوقعات، وتغيب الصراعات. فالإنسان عندما يعاني إلحاح حاجاته، سواء الأولية أو الثانوية، يقلّ شعوره بالرضا على قدر شعوره بالحاجة، وينشب داخله صراع الاحتياج، مع إحباط الواقع وتأجيله للإشباع. وعندما تخيب توقعات الإنسان، يشعر بالفشل وعدم السيطرة الداخلية على الأمور، ومن ثم، بالإحباط وغياب السعادة.
          ويحدث ذلك كثيراً لمن يبالغون في توقعاتهم، فعندما ترتفع الطموحات، وتحلّق بعيداً عن الواقع، وتبنى عليها التوقعات، تصبح هناك فجوة واسعة بين التوقعات والإمكانات الواقعية المتاحة، لا يمكن اجتيازها. وقد يلجأ الإنسان، في مثل تلك الظروف، إلى الخيال ليحقق طموحاته، في ما يعرف بأحلام اليقظة، التي تحقق له سعادة زائفة، كما يلجأ المدمن إلى المخدرات، هروباً من الواقع، وبحثاً عن سعادة زائفة مؤقتة، لا تلبث أن تزول بزوال مفعول المخدر. وأما غياب الصراعات، فهي حالة من الهدوء الداخلي، الناتج من توافق الرغبات، وتلاؤمها مع جهاز القِيم داخل الإنسان، ومحاذير الواقع الخارجي، فيكون راغباً في ما هو مقبول داخلياً، ومباح خارجياً.
          والسعادة بصورتها هذه، لا يمكن أن تكون حالة دائمة، طوال الوقت. فالإنسان المتفاعل مع الحياة، المشارك فيها، إيجابياً، لا يحقق الرضا الدائم، أو غياب الصراع الداخلي، طوال الوقت. ومن ثَم، فلن يكون الشعور بالبهجة والطمأنينة شعوراً دائماً. وهذه طبيعة الحياة، وطبيعة الإنسان، الذي يحياها، والذي تتجدد حاجاته، ولكل حاجة إحباطاتها. كما أن تفكيره ومزاجه يتغيران من لحظة إلى أخرى، كما تتغير كيمياء جسمه وعقله، فالثبات الدائم، هو سكون الموتى. لذا، فإن السعادة الأبدية، لا يمكن الوصول إليها إلا في الجنة، والتي لن تكون إلا بعد الموت، وغياب كل مظاهر الحياة، بما فيها من تغيرات لانهائية.
          ويبرز هنا سؤال: أهناك عوامل تؤثر في السعادة؟ وما مقدارها؟ وهل تجعل هذه العوامل أو المقومات الإنسان سعيداً، عندما تتوافر له؟
والإجابة عن ذلك بالإيجاب، أي أن هناك عوامل ترتبط بالسعادة، وهي:
1. السن
لا شك أن الطفل يسهل إسعاده عن الكبير، خاصة إذا تهيأت الأم الحسنة، مع الجو الأُسَري، الذي تسوده المودة والرحمة والحوار والتفاهم؛ إذ إن مداعبة أفراد الأسرة له، واهتمامهم به، يجعلانه سعيداً، خاصة أنه ليس عليه مسؤوليات أو واجبات تثقل كاهله. وعندما يكبر يتحمل المسؤوليات تدريجياً، ويتعرض لإحباطات الواقع، فتقل سعادته. ومن هنا، كانت الطفولة أكثر ارتباطاً بالسعادة، وكثيراً ما شبه السعيد بالطفل.
ومع ذلك، فلكل مرحلة من مراحل حياة الإنسان، ما يمكن أن يجعلها سعيدة، فمثلاً، يمكن الشاب الذي يدرس في الجامعة، أن يكون سعيداً بما يقوم به من أنشطة وصداقات وعلاقات عاطفية ونجاح دراسي. ولكن كل ذلك يتطلب تحملاً للمسؤولية، وبذلاً للجهد، وسيطرة على النفس لتحقيقه. فالنجاح الدراسي، يستلزم مثابرة ومذاكرة لتحصيل العلم، مع تأجيل حاجات أخرى، والنجاح الدراسي مهم بالنسبة إليه، لأنه لو كان فاشلاً، لتغيرت نظرة زملائه، إليه، علاوة على موقف أسرته. وليست المسؤوليات، التي ترتبط بكبر الشخص، وتجاوز مرحلة الطفولة، هي المكدر لصفو السعادة دائماً، فأحياناً تكون السعادة في استمرار أداء الدور وتحمّل المسؤولية والقيام بعمل ما. وهذا ما نلاحظه، من التعاسة والمرارة، التي يشعر بها من يحالون إلى التقاعد والفراغ من مهام يقومون بها.
2. الجنس: هل ترتبط السعادة بالجنس (النوع)؟
لا ترتبط السعادة بجنس الذكور أو بجنس الإناث، ولكن، تدخل اعتبارات أخرى، قد ترتبط بالجنس، في بعض الحالات. فمثلاً، عندما يكون لدى الأسرة عدد من الأبناء الإناث وترغب في ولد ذكر، وتنتظره بفارغ الصبر، فإنها تسعد به عندما يولد، وتعطيه من الاهتمام ما يجعله طفلاً سعيداً، والشيء نفسه يحدث عندما يكون لدى الأسرة عدد من الأطفال الذكور، وترغب في بنت. ومن ثَمّ، فإن الجنس، لا يرتبط بالسعادة. ولكن زيادة نسبة اضطرابات الوجدان لدى الإناث، يقابلها زيادة اضطرابات الإدمان واضطرابات الشخصية لدى الذكور، إضافة إلى أن المميزات الاجتماعية للمرأة، أقل من الرجل، بوجه عام، ودورها يرتبط بالكثير من الضغوط، التي قد تقلل من الشعور بالسعادة، وهي أكثر تأثراً بالأحداث الضاغطة، لسماتها الشخصية، من الحساسية الشديدة، وضعف آليات التكيف. وهذه كلها تعود إلى التنشئة الاجتماعية والظروف الحياتية، أكثر من ارتباطها بجنس المرأة في حد ذاته.
3. المهنة
وترتبط المهنة، بوجه عام، بالسعادة، إذ إنها توفر للإنسان دوراً يؤديه، فيشعر، من خلاله، بأهميته، وبحاجة الآخرين إلى عمله، فيسعد به، وبما يحققه من رضاء الآخرين عن أدائه لهذا الدور.
والمهنة التي تتيح لصاحبها فرصة التنوع في الأداء، تحقق له سعادة أكثر، إذ تجنبه الشعور بالتكرار، الذي قد يوصل إلى الشعور بالملل والرتابة. وكذلك المهنة، التي تكون هواية للشخص، تصبح أكثر إمتاعاً له، وباعثة على سعادته، مثل من يهوى قيادة السيارات، ويعمل سائقاً؛ ومن يهوى الشرح والتوضيح، ويعمل مدرساً؛ ومن يهوى الألغاز البوليسية، ويعمل ضابط شرطة؛ ومن يهوى كرة القدم، ويعمل في مجالها؛ فإن كل هؤلاء سيسعدون بأدائهم لأعمالهم. ومن هنا، يمكن أن نقول (طوبى لمن كانت مهنته هوايته). وترتبط المهنة بالسعادة عندما توفر لصاحبها مكانة اجتماعية مرموقة، إذ يزيد تقديره لذاته، وترتفع معنوياته.
ولا شك أن عدم وجود مهنة للإنسان يؤديها، يحبط معنوياته، ويشعره بالملل وعدم القيمة؛ فالمهنة، إضافة إلى أنها مصدر للرزق، تتيح للإنسان فرصة لعلاقات اجتماعية خارج نطاق الأسرة، وتنظم وقت الإنسان، وهي مخرج لطاقته، وهي، كذلك، دور ومكانة في الحياة الصاخبة الحركة، والتي لا مكان فيها للسكون.
وخير مثال على ذلك تلك السيدة، التي باغتها الاكتئاب، بشدة، حين كرهت الحياة، وبحثت عن الموت في الامتناع عن الأكل وعن الكلام، وفقْد الاهتمام بكل مباهج الحياة، واضطرب نومها، مع الشعور بالملل والكآبة المسيطر عليها طول الوقت. وكان سبب ذلك، هو إحالتها إلى التقاعد بعد بلوغها سن الستين، فقد كانت طوال حياتها شعلة من النشاط، سواء في عملها، أو في بيتها. وفي الوقت الذي فقدت فيه عملها، بالخروج إلى التقاعد، كان أبناؤها قد كبروا وتزوجوا وتركوا لها البيت إلى حياتهم المستقلة، فكان التقاعد مرتبطاً بعدم القِيمة، وغياب الدور، والشعور بالوحدة، والذي كان متحققاً من خلال عملها.
وكذا ذلك اللواء، الذي أحيل إلى التقاعد منذ سنوات، وحضرت زوجته تشكو وتبكي من عصبيته، وسوء معاملته لها هي وأولادهما، إذ يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، سواء في المطبخ، أو في شؤون البيت أو الأولاد، وينفعل ويثور لأتفه الأسباب، ويكسر الأشياء التي تصل إليها يده في لحظة الانفعال، وكثيراً ما يضرب من يحاول مناقشته، سواء الزوجة أو الأبناء. وقررت الزوجة أن هذا يحدث منذ إحالته إلى التقاعد. وعندما جلست إليه، على انفراد، بكى من فرط حزنه وشعوره بالملل والكآبة والإحساس بعدم القيمة، وشكى الفراغ القاتل الذي يشعر به، والطاقة الزائدة التي لا يجد لها مخرجاً، فقد كان نشيطاً جداً في عمله ومحباً له، وبعد ما هدأ، وأخذ يفكر في حلول، بمساعدتي، طلب مني أن أجد له عملاً ولو بدون أجر، ليقضي فيه وقته، ويخرج فيه طاقته. ومن هنا تتضح أهمية المهنة والدور الوظيفي للإنسان في تحقيق السعادة.
4. التعليم
يُعَدّ التعليم، في حد ذاته، معاناة لمن يتعلمون، بهدف الحصول على الشهادة، إذ تكون المادة الدراسية واجباً ثقيلاً، يسعى الشخص إلى إنهائه، من دون استمتاع بالمادة العلمية، وهذا الشخص تكون سعادته في الحصول على الشهادة فقط، وهو، غالباً، لا يستفيد من دراسته، بعد ذلك. لأنه كان يذاكر من أجل الامتحان فقط. وينسى الكثير مما تعلمه بعد الحصول على الشهادة.
أما من لا تتوقف العملية التعليمية لديهم، بحصولهم على الشهادة، فيستمرون مستمتعين بتعلم الجديد، مهما كانت أعمارهم. وهنا، يكون التعليم مصدراً متجدداً للسعادة، سواء كان من خلال القراءة أو الاستماع أو المشاهدة، أو أيّاً كانت وسائل تحصيله. ولذا، فإن هذه الفئة المحبة للعلم، تحقق كثيراً من السعادة لنفسها باستمرار التعلم، إضافة إلى أن الشخص الذي يملك ناصية العلم، تكون له رؤية متسعة للأمور، ولديه قدرة على التكيف مع المشكلات وإيجاد الحلول لها، كما أن رؤيته لذاته، تكون إيجابية، فيزيد من اعتباره لذاته، وهذه كلها متغيرات تعمل في اتجاه السعادة.
5. المساندة الاجتماعية
ويقصد بها الدعم الذي توفره شبكة العلاقات الاجتماعية للفرد، سواء كانت تلك العلاقات في صورة زواج، أو علاقات قرابة في نطاق أسرة نووية (صغيرة)، أو أسرة ممتدة، أو علاقات صداقة أو جوار. ولا شك أن الإنسان كائن اجتماعي، لا يمكنه أن يعيش بمعزل عن الآخرين، فوجودهم يشعره بوجوده، بل يعطيه الشعور بالأمان والاطمئنان إلى أن هناك آخرين، سوف يخفّون إلى نجدته، إذا أصابه مكروه. وعندما يقع المكروه، فإن مشاطرتهم إياه مشاعره، تخفف عنه عبئاً كبيراً منه، بل إن المساندة الاجتماعية تساعده على الخروج من الكارثة، وهو أكثر ثقة بالآخرين، واطمئناناً لهم.
وتُعَدّ المساندة الاجتماعية نوعاً من التأمين الاجتماعي، ضد خطوب الحياة وأحداثها المؤلمة. وهي، في الوقت نفسه، مبعث للسعادة. فعندما يكون الإنسان فرحاً وسعيداً، ويشرك معه الآخرين، فإن شعوره بالسعادة يزداد بسعادة الآخرين معه، وإذا شارك الآخرين سعادتهم، فإنه سيسعد لسعادتهم، فالسعادة تعدي وتنتقل من السعيد إلى غيره، ومن هنا قيل (من جاور السعيد يسعد).
ومن بين المساندة الاجتماعية، علاقة الزواج، وهي، إلى جانب ما توفره من دعم معنوي، تعطي متعة حسية من خلال العلاقة الجسدية، تحقق للإنسان السعادة، بل يكون من ثمرتها الأولاد، الذين يسعد بهم الآباء، ويجدون فيهم قرة أعين لهم، ويسعدون بأن يكون من بين أهدافهم إعداد هؤلاء الأولاد لحمل مسؤولية المستقبل. وهكذا يوفر الزواج متعة ودعماً وأملاً للمستقبل، وهو الأولاد، وكلها مكونات للسعادة.
وتُعَدّ الصداقة إحدى العلاقات الاجتماعية، التي تعطي دعماً ومساندة، نفسية واجتماعية، لأطرافها، وتحقق لهم سعادة من خلال الاهتمامات المشتركة، والهوايات، والاندماج فيها معاً، كما تحقق الصداقة، في مختلف الأعمار، شعوراً بالقبول الاجتماعي، ويشعر، من خلالها، أنه محل ثقة واحترام الآخرين، وهذا يحسن من صورة الذات لديه، ويحقق له السعادة، كذلك.
ولا شك أن الأصدقاء يرتبط بعضهم ببعض بذكريات، سواء ذكريات أيام كانت مضنية، تقاسموها معاً، فخفت وطأتها عليهم، أو أيام كانت سعيدة، تشاركوا فيها، فازدادت سعادتهم، وفي كلتا الحالتين، يجمعهم شيء واحد، إنهم يسعدون بتناول تلك الذكريات معاً. وبفعل التشريط، أي ارتباط شخص ما بمواقف السرور والسعادة، يمكن أن نسر ونسعد ليس للموقف، بقدر ما نسعد لِمَا بعث داخلنا ارتباط شرطي، وهذا هو ما يجعل الكثيرين من الجمهور يضحكون ملء أشداقهم لمجرد أن يشاهدوا ممثلاً كوميدياً، اعتادوا أن يضحكوا ويسروا عن أنفسهم بمشاهدة أعماله، من دون النظـر إلى ما يقدمه هذا الممثل في الموقف الجديد.
ومن أهم ما يعكر صفو السعادة لدى الإنسان، شعوره بالوحدة والعزلة، فكما قيل (جنة من غير ناس ما تنداس)، ولذا، فإن من يفعل ذنباً من المساجين يعزل في حبس انفرادي ( زنزانة انفرادية) كنوع من التعذيب له، وحين يُعفى عنه، يعود إلى مخالطة زملائه من السجناء.
6. الطبقة الاجتماعية
لا شك أن من ينتمون إلى الطبقة الاجتماعية العليا، يستطيعون إشباع الكثير من حاجاتهم. ومن ثم، فهم أقدر على تحقيق السعادة أكثر من غيرهم من أبناء الطبقات الأدنى. كما أنهم يشعرون بتقدير الذات أكثر، وتكون لديهم القدرة على الاستمتاع بوقت الفراغ أكثر من غيرهم. وتقل إحباطاتهم. وكل هذا يحقق لهم قدراً أعلى من السعادة. وقد تكون السعادة في الطبقة الدنيا أعلى منها في الطبقة المتوسطة،
بشرائحها المختلفة، إذ إن الطبقة المتوسطة تعيش صراعاً في تطلعها إلى الطبقة الأعلى ورغبة الوصول إليها، إضافة إلى الخوف من الانحدار إلى مستوى الطبقة الدنيا. ولذا، فإنها أكثر الطبقات معاناة، ومن ثَم أقلها سعادة. كما أنها، أي الطبقة الاجتماعية المتوسطة، غالباً ما تكون هي الطبقة المحافظة على قِيم المجتمع وأخلاقياته. ومن ثَم فإنها تتحمل معاناة أخرى، إلى جانب الصراع، الذي تعيشه وهذا يزيد من مسؤوليتها، ويقلل من سعادتها.
7. سمات الشخصية
هناك سمات للشخصية ترتبط بالسعادة أكثر من غيرها، فمثلاً، الشخصية الانبساطية أكثر شعوراً بالسعادة ومعايشة لها من الشخصية الانطوائية. والشخصية الانبساطية، هي الشخصية المنطلقة، التي يميل صاحبها إلى تعدد الصداقات، وسهولة الارتباط بالآخرين. وكثرة النشاط والحركة متفاوتة في الشخصية الانطوائية التي تقل حركة صاحبها، إذ يفكر أكثر، ويميل إلى العزلة أكثر من الاختلاط بالآخرين. وتقل علاقاته وإخراج طاقاته والاستمتاع بوقت فراغه.
وهناك السمة المزاجية في الشخصية، والتي تميزها كمزاج دائم، إذ إن هناك أشخاصاً معروفين بالمزاج المرح. وهناك آخرون معروفون بالمزاج الكدر (النكدي). وهناك من يكون مزاجهم المميز قلقاً أو متناوباً بين المرح والكدر. ولا شك أن المرحى، مزاجاً، أكثر سعادة، شعوراً أو تعبيراً، من غيرهم من أصحاب الأمزجة الأخرى. ومصداق ذلك شكوى سيدة، أن زوجها النكدي، الذي كدر عليها حياتها، وأصابها بالاكتئاب، وتصفه بأنه معروف عنه ذلك، منذ أن كان طفلاً، إذ إنها عندما شكت إلى أمه، أكدت لها أن هذا طبعه، وأنه نكدي، لا يحب السرور، وفي أشد اللحظات سروراً، يبحث عما يكدره، وهذا منذ أن كان طفلاً، ومثل هؤلاء الأشخاص يصعب تغييرهم، لأن السمة المزاجية الكدرة لديهم ليست مرضاً، ولكنها جزء من تكون الشخصية.
8. المرض النفسي
هناك مرض نفسي، يكون الشعور بالسعادة جزءاً منه، وهو مرض الهوس، إذ يشعر المريض بالسرور الشديد، مع تضخم الذات، وينسب إلى نفسه قدرات، ليست حقيقية، مثل أنه أعظم من يحل مشكلات العالم، الاقتصادية والمرورية والسكانية وغيرها. ولا يكون لديه ميل إلى النوم، ويكون كثير النشاط والحركة والكلام في كل الأمور. وهذا المريض غير مستبصر ما لديه من اضطراب، وهو مزعج للمحيطين به، ويرفض العلاج، لأنه يعود به إلى حالته الطبيعية، ويحرمه حالة السعادة المرَضية التي يعيشها. وفي المقابل، هناك مرض الاكتئاب، الذي يكره فيه الشخص نفسه ويلومها، ويشعر بالضيق والكآبة والملل، وقد ينتحر ليخلص نفسه من تلك المشاعر المؤلمة.
كذلك هناك أمراض نفسية عديدة، تولد معاناة تحرم الإنسان المريض أي شعور بالسعادة، مثل القلق والوسواس وغيرهما من الأمراض، التي يكون المريض فيها مستبصراً حالته المَرضية ويود علاجاً لها.
9. البيئة التي يعيش فيها الشخص
أهي بيئة مدينة، يغلفها التلوث، بشتى صوره، الهوائي والضوضائي والزحامي؟ أم هي بيئة ريفية، يغلب عليها النقاء، وتكسوها الخضرة، ويظهر فيها الماء ويلفها الهدوء؟ لا شك أن البيئة الريفية الهادئة، تحقق استرخاءً داخلياً أكثر، وهي أقرب إلى السعادة من التوتر، الذي تولده بيئة المدينة الصاخبة. ولذلك، يهرب سكان المدن إلى المنتجعات والمزارع، طلباً للهدوء، وتحقيقاً لقدر من السعادة.
كما أن البيئة التي تظهر فيها الشمس، وتكون درجة الحرارة فيها معتدلة، تبعث على السعادة أكثر من البيئة الملبدة بالغيوم طوال الوقت، أو التي تزيد حرارتها ورطوبتها إلى درجة، يصعب احتمالها. والبشر يتفاعلون مع حرارة الكون ورطوبته، دفئه وبرودته، ويكون لكل من تلك التقلبات معانٍ في داخلهم، تحرك انفعالات معينة، تفرز هرمونات معينة، تجعلهم يعيشون نعيش تغيرات على المستوى، البيولوجي والنفسي، وكذلك الاجتماعي، ليسوا بمعزل عن الآخرين، كذلك.
وهكذا، فإن مفهوم السعادة معقد، ويصعب تحقيقه، وهي خبرة داخلية يجهد الناس في البحث عنها، ولكنها لا تكتمل إلا في الجنة، التي لا تكون إلا بعد الموت.

المراهقة

المراهقة



          وهي مرحلة انتقالية بين الطفولة والرشد، وهي غير محددة، تماماً. ويمكن أن نَعُدّها العقد الثاني من العمر، إذ إنها بين الثانية عشرة والحادية والعشرين. فالبداية، عادة، بين الحادية عشرة والسادسة عشرة، لدى الذكور، ومبكرة بعض الشيء لدى الإناث (عام أو عامين) وفي السنوات الأخيرة قل متوسط العمر الذي يبدأ عنده البلوغ، ولعل السبب في ذلك. هو تحسن التغذية والرعاية الصحية وارتفاع مستويات المعيشة.
          وتبدأ المراهقة، على المستوى الجسدي، بعملية البلوغ، التي هي نتاج لتغيرات هرمونية، إذ تقل حساسية المحور المكون من الهيبوثلاموس والغدة النخامية للتغذية المرتجعة المثبطة، بوساطة الاسترويدات الجنسية، بوساطة زيادة إنتاج العوامل المفرزة للهرمونات الجنسية، وما يتبعها من إفراز الهرمونات الجنسية، ثم يتبع ذلك كبر حجم الأعضاء التناسلية الخارجية، ونزول دم الحيض لدى الإناث، ويصاحبه كبر حجم الثديين وظهور شعر في منطقة العانة وتحت الإبطين وتستدير الأرداف ويصبح الجسم أنثوي التكوين؛ ولدى الذكر يكبر حجم الأعضاء التناسلية والخصيتين وكيس الصفن مع ظهور الشعر في منطقة العانة، وتحت الإبطين، ومنطقة الشارب واللحية، وعلى الجسد في مناطق متفرقة مع غلظ الصوت، وتضخم العضلات، وكبر الجسم نحو الطابع الذكري.
          هذه التغيرات الجسدية السريعة، قد تحدث ارتباكاً للمراهق، فيبدو أنه لا يسيطر على أطرافه، التي أصبحت أغلظ، أو يخجل من بعض أجزاء برزت في جسده، مثل المراهقة التي تخجل من بروز نهديها. أمّا على المستوى النفسي الاجتماعي، فإن محور الاهتمام في هذه المرحلة هو "الهوية في مقابل غموض الدور" (Identity versus Role Confusion).إذ على المراهق أن يحدد هويته، ويجد له دوراً اجتماعياً وجنسياً ووظيفياً في المجتمع، الذي ينتمى إليه، فلقد أصبح عليه تحديات لا بدّ أن يواجهها، وهي:
1.   أن يتحكم في طاقته الجنسية، ويجد لها مخرجاً، وكذلك عدوانه، طبقاً لتوقعات بيئته الثقافية والاجتماعية.
2.   أن يرتبط بواحد من أفراد الجنس الآخر.
3.   أن يحرر نفسه من الاعتماد المفرط، اجتماعياً وعاطفياً واقتصادياً، على والديه.
4.   أن يختار عملاً.
5.   أن ينمو لديه شعوراً ناضجاً بالهوية.
          هذه التحديات يعيشها المراهق فيما يعرف بأزمة الهوية (Identity Crisis)، التي تتبلور في سؤالين أساسيين هما: من أنا؟ وماذا أريد؟.
          والمراهق لا يدخل إلى مرحلة المراهقة خالي الوفاض، فهو ليس وليد اللحظة، ولكنه مرّ بمراحل النمو السابقة، واكتسب، من الخبرات والعلاقات والانفعالات، ما يعيه شعورياً، ومالا يعيه، ما يجعله يتأثر في اختياراته في هذه المرحلة، فإذا لم تتحقق له الثقة في مرحلة الأمان، فإنه سيشك في الآخر، ويتخوف من إقامة علاقة معه، وقد ينعزل لذلك. وفي اختياره للرفيقة، سيختارها كأم، تعوضه ما لم يناله من الأمان، وتفهمه دون أن يتكلم، كما يطلب الطفل الذي لم يتكلم بعد من أمه، ويكون هو محور اهتمامها، وإذا لم يتحقق له الإستقلال، فإن معاركه وعناده، في هذه المرحلة، يكثر، مؤكداً إستقلاله، خاصة بعد أن أصبح ذو جسد قوي، وصوت جهوري، ومنطق يجادل به. وإذا لم يتحقق له حل الصراع الأوديبي، وما يصاحبه من الشعور بالعجز، فإنه يكون عدائياً تجاه السلطه المفروضة عليه، في البيت أو المدرسة أو غيرهما، مع استعراضية وإغواء للجنس الآخر دون إشباع حقيقي.
          ويميل إلى جذب انتباه من ترتبط بآخر، كي يكون في منافسة تشبه ما يعانيه من الموقف الأوديبي، وحين ينالها، فإنها لا تعني شيئاً بالنسبة له، فكل ما كانت تعنيه هو المنافسة وتحقيق الانتصار فقط. لذا، فهو يتركها لغيرها، ويظل مغوياً لا مشبعاً. أما إذا لم يتجاوز طموحه في إنجاز المثابرة، فإنه يظل متفانياً في عمله، كابتاً لرغباته الجنسية، لا يظهر ميلاً للجنس الآخر، ولا يختار رفيقة (أو رفيق)، فيتوقف عند المثابرة، لا يتجاوزها إلى الهوية.
          وفي ضوء ما تقدم من تغيرات جسدية، وما يواجهه المراهق من تحديات في هذه المرحلة، وما اكتسبه من المراحل السابقة ومالديه من بقاياها، فإنه يتفاعل مع مجموعة الرفاق، وأفراد الجنس الآخر، وسلطة الوالدين، ومع انفعالاته هو شخصياً، إذ يدخل الأولاد إلى المراهقة بحدة ويندمجون مع مجموعة من نفس الجنس، في علاقة زمالة، والاهتمام بالجنس الآخر يؤدي إلى الاهتمام بالمظهر، من حيث اللبس والشعر ونظافة الجلد. والعلاقة بالجنس الآخر تتسم بالتمركز حول الذات، في باديء الأمر.  فكل طرف يهتم بإنجازه هو، كما قد يكون الافتتان حاداً، ولكنه قصير الأمد. وفي داخل المجموعة، قد يكون الولد، في بدء المراهقة، متبجحاً استعراضياً متنافساً، يروي نكاتاً داعرة، بهدف تخفيف التوتر المرتبط بالجنس والكفاءة الجنسية. بينما تدخل المراهقة البنت مرتبطة بصديقاتها المقربات إليها، وعادة يكن أقل عدداً من مجموعة الذكور. وتجاهد البنت في الإستقلال عن أمها، والتمرد على السلطة، وتكوين صداقات مع من تثق بهن، وغالباً تقترب من أبيها. وعندما تكون مرحبة بتغيرات جسدها، تبدأ في توجيه اهتمامها الجنسي تجاه الأولاد، فتبدأ في جذب انتباههم، وقد تتنافس مع رفيقاتهـا في ذلك، وقد يكون لفت الأنظار بالتنافس في مجال التعليم أو العمل. وبالمقارنـة بالأولاد، لا يرتبط شوق البنت إلى الحب بالإحساس الجنسي قبل الرشد، والعادة السرية لديهن ليست شائعة، وربما يكون ذلك بسبب الكبت الاجتماعي للبنات، الذي لا يشجع على لمس أعضائهن التناسلية،  على عكس الأولاد الذين يندر بينهم من لم يمارس العادة السرية، بسبب نقص الرغبة الجنسية المرضي، أو الكبت الشديد للغرائز.
          ولكي يحصل المراهق على الاستقلال، عليه أن يحرر نفسه من الارتباط بوالديه، فيتعلم العناية بنفسـه، ويحصل على مساندة رفاقة في المجموعة، وعليه أن يتحمل مسؤولية عضويته فيها، وما تلقيه عليه من تبعات. وخلال عملية التفرد، يتأرجح المراهق بين اعتمادية الطفل، وعناد المستقل، وقد يجد الوالدان هذا محيراً كما أن طول مدة التعليم العالي وما بعده الذي يجعل المراهق معتمداً، مادياً، على والديه بعد نضجه، الجسماني والانفعالي، يكون سبباً في تأخر استقلال المراهق.
          وعادة يكون المراهق متناقض المشاعر، إذ يرفض سيطرة الكبار، وهو في الوقت نفسه، يحتاج إلى إرشاد وتوجيه. ويختبر المراهق نمط السلطة، ليرى إلى أي حد يمكنه أن يذهب، فهو يحتاج إلى حدود ليشعر بالأمان، وتقلبات المزاج لديه شائعة، وأحياناً لا تستطيع قوى الضبط الداخلي أن تتكيف مع النزعات الغريزية المتزايدة. فقد يحدث السلوك الجنسي الفاضح، أو نوبات العدوان، أو الشره للأكل، ويخاف المراهق من هذا الفقد للسيطرة فيحاول أن يحصن نفسه بدفاعات، فيتبنى مواقف جمالية مبالغ فيها، أو يعقلن الأمور، فيصبح مفرط في القراءة والتفكير والمناقشة. وعادة، يسقط المراهق حدة رغباته الجنسية للخارج، ويشعر أن الآخرين خاصة الكبار لديهم الأفكار الجنسية عينها تجاهه، ويشعر أنهم يغوونه، وقد يتفاعل بالعزلة والخوف والانقباض ونقص الثقة بالنفس.
          ويعيش المراهق السوي، الميول النكوصية، والمشاعر المتضاربة، كما يعيشها المراهق المضطرب، ولكن الأخير يكون مبالغاً وغير متوازن، وأهم الحيل الدفاعية، التي تكون محل التوازن أو المبالغة، ما يلي:
1.   النقل: إذ تنتقل الإحتياجات الاعتمادية من الوالدين، إلى بدلائهما، مثل الأبطال أو الأقران المثاليين. ويبالغ في هذه الارتباطات الجديدة في افتتان رومانسي، أو ينقل ولائه التام إلى فلسفة أو قيادة دينية، وقد ينسلخ من سيطرة الوالدين، إلى درجة أنه قد يندمج في تفعيل متقطع في شكل هروب من البيت، أو جنوح في نشاطات مضادّة للمجتمع.
2.   قلب المشاعر للضد: فالمراهق الذي لا يستطيع الانفصال، قد يعكس اعتماديته، ويحول الحب إلى عناد، والارتباطات إلى ثورة، والاحترام إلى سخرية، وأن الكبار، للأسف، لا يعون العصر، وقد يتمثل في اعتمادية عدائية متبادلة في ارتباط المراهق بوالديه.
3.   الإنطواء بتوجيه الاهتمام للداخل بدلاً من الخارج: فالمشاعر التي انسلخت من الوالدين وُجِّهت للذات فزادت النرجسية، وهذا يعطي تفسيراً لانشغال المراهق، بملابسه ومظهره وجلده وملامحه وجماله وقوته، ويظهر، كذلك، في زيادة تأكيد الذات، وخيالات، القوة والجمال والمعاناة، أو البطولة، وفي نمط المبالغة المرضي، يظهر الإنشغال بالجسد، في صورة القهم العصابيDescription: D:\elebda3.com\%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%B9%D8%A9 %D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%A9\%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%82%D8%A9\Al Moqatel - %D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D8%B3%D8%A7%D9%85_files\Mokatel38_2-2_files\tip1.gif ، نقص الشهية العصابي المرضي وتوهم المرض والقلق والفصام.
4.   النكوص: ينكص المراهق لاهتمامات طفلية، أو لعب، أو اعتمادية على الوالدين. ونمط المرض يظهر في الفصام وفي اضطراب الشخصية الحدية.
5.   الكبت، كدفاع ضد النزعات، في المراهقة: إذ يؤجل النمو بوساطة الكبت والإنكار لرغبات الجنس، ومشاعر العدوان، ومحاولة المحافظة على الصورة الحسنة، التي نشأت في المرحلة السابقة المثابرة.
6.   التكوين العكسي: إذ يحاول بعض المراهقين أن يحكموا نزعاتهم بوساطة الاتجاه للزهد، وهذا النمط يتعشق، أحياناً، مع الرياضة، والنمط المبالغ فيه يظهر في حالات القهم العصابي والوسواس القهري والفصام المبكر.
7.   العقلنة: إذ تندمج القدرة التصورية (القدرة على التجريد) التي نمت لدى المراهق في هذه المرحلة، فلقد أصبح أن يفهم ما يكمن خلف الألفاظ من المعاني، مع حاجة المراهق إلى كبح نزعاته، بحثاً عن المبادئ المجردة التي تنظم السلوك، ويميل المراهق إلى أن يكون غير مرن، فيطبق مبادئه التي توصل إليها. وأحياناً يعجز المراهق عن الفعل، فيصبح مشلولاً أن يتكلم بما هو غير متسق أخلاقياً من الأفكار.
8.   المثالية: إذ يرى المراهق في غمرة حماسه الأخلاقي الأمور، إمّا بيضاء أو سوداء، أي يراها كمبادئ قاطعة ويجب تطبيقها من دون اعتبار للموقف، وهو، لذلك، يرى الناضج الواقعي كشخص ميئوس منه، أخلاقياً، إلى أن يتلون الأنا الأعلى لديه بمفاهيم التبادلية والنسبية فيتجه نحو الواقعية.
9.   الشعور بالهوية المتفردة: إن جدلية الحياة تشير إلى أن الشيء يولد نقيضه، وينشب الصراع بينهما حتى يفصح عن إئتلاف جديد هو جماع للنقيضين، ولا يلبث هذا الجماع الجديد أن يولد نقيضه وينشب بينهما صراع جديد. لذا، فإن المراهقة تُعَدّ ثورة على الآباء، بقدر ما هي ثورة على الطفولة السابقة لها، إذ يهفو المراهق إلى هوية جديدة، بعيداً عن التوحدات الجزئية لفترات النمو السابقة، فالمراهق لن يشعر بالتكامل حتى يُخضع كل هذه التوحدات الجزئية لإحساس شامل بالتفرد، عابراً ماذا كان؟ وماذا يريد أن يكون؟ وموفقاً بين مفهومه عن نفسه، ومفهوم المجتمع، وعندما تصبح الهوية صلبة، يصبح
المراهق قادراً واثقاً في مراهقته المتأخرة التي تؤهله للألفة في الرشد الباكر.
10.               النمو المعرفي في المراهقة: يصبح المراهق قادراً على إستخدام المفاهيم المجردة فيما يسمى بمرحلة التصور القبلي (أو التفكير المنطقي). إذ يستطيع إستخدام الرموز في التفكير، وإدراك النسبة والتناسب، وبناء النتائج على مقدمات توصل إليها، والقياس المنطقي، وقبول وجهة النظر المقابلة، وفهم نظرية الإحتمالات، والتفكير الثانوي (أي التفكير في التفكير)، وهكذا تصبح المراهقة بداية صحيحة للتفكير الراشد.
11.               ففي المراهقة المتأخرة يصبح المراهق قادراً على أن ينسلخ من مشاعره وأفعاله، ويدرك نتائج سلوكه أو أفكاره، وهو ما نسمية بملاحظة الذات، وهي مرتبطة بالنمو المعرفي المرتبط بالإحساس بالزمن، وما يتعلق بالمستقبل، والقدرة على افتراض مواقف متعددة، وتخيل نتائجها في عقله، وهو جزء مهم في التخطيط للمستقبل، وفي التواصل، مع الكبار، وقبول التوجيه. وهنا لم تعد أراء رفاقه هي كل الحقيقة، ولكنه يقارن رأيه بآرائهم، ويحترم الكبار، ويتخذ قراراته بعد تفكير.
12.               الرؤية المتبادلة بين الأجيال: إن موقف المراهق من آراء الكبار، وكيف أنه يثور ويتمرد ويتصارع من أجل هوية متفردة، وموقف الكبار الذي ينتقد المراهقين ولا يقبل رؤيتهم، يحدث فجوة بين الأجيال، ولكن هذه الفجوة ليست حديثة العهد في هذا الجيل، أو ما سبقه، ولكن لها تاريخ طويل. ففي القرن الثامن قبل الميلاد، كتب هسيود، الشاعر الإغريقي، يقول: "أنا لا أرى أملاً في مستقبل شعبنا، إذا اعتمدوا على شباب اليوم الطائش، لأنه، بالتحديد، كل الشباب طائشون، بما لا تصفه الكلمات. فعندما كنت صبياً، تعلمنا أن نكون عاقلين، محترمين للكبار، ولكن شباب اليوم غير عقلاء، إلى حدٍّ بعيد ويضيق صدرهم بالقيود".
ونلاحظ من ذلك، أن هناك، من قديم الزمان، من لا يفهم المراهقين وينتقدهم، فيزداد عنادهم، ويشعرون بالفجوة، وبما يسمى بصراع الأجيال. وهي ليست مشكلة المراهقين، بقدر ما هي مشكلة الكبار الذين يجب عليهم الصبر والتفهم للمراهقين، فتعامل الكبار بانفعال مع المراهقين، يفقدهم التواصل معهم، وهو في الوقت نفسه، قدوة إنفعالية لهم في التعامل مع الأمور.
وهناك سؤال يجدر طرحه، والإجابة عنه في هذا المجال، وهو، هل يكثر الاضطراب بين مراهقي هذه الأيام؟
نلاحظ أن المراهقين، في المجتمع الحديث، يتعرضون للعديد من الضغوط والشدائد النفسية.  وازداد، فعلاً، رصد الظواهر المرضية في مرحلة المراهقة، وربما يعزى ذلك إلى الإنتشار السريع للمعلومات بوساطة وسائل الإعلام، وتناقل الأنباء التي يُبالغ فيها، أحياناً، فتهز الشعور بالأمان، فضلاً عن دور وسائل الإعلام في تداخل الثقافات، بما يضع المراهق أمام تناقضات وتغيرات عديدة، قد تعوق اختياراته، إضافة إلى النظرة المتشائمة للمستقبل، التي لا تحمل له من الطموح ما يكفي لدفعه إلى الأمام، وإلى تجاوز الاعتمادية على والديه، خاصة ما يتعلق منها بالجوانب المادية، وارتفاع تكاليف المعيشة، وما يعانيه الشباب من أزمات المسكن والمواصلات. هذا مع ما يُطرح من آراء حول  التغيرات البيئية المنتظرة لكوكب الأرض، والتي تشكك في إستقرار البشر عليها، إضافة إلى تهاوي نظريات، سياسية وإقتصادية، ظلت سائدة ردحاً من الزمن، كل هذا يزيد من حيرة المراهق، ويجعل من الاختيار أزمة، قد تؤدى إلى الاضطراب. كما أن أفلام الفيديو، وأفلام الكرتون، والإعلانات، تشجع المراهق على التعبير عن نزعاته  المكبوته، الجنسية والعدوانية، فيصطدم بالمجتمع ويحدث الاضطراب.

الحب Love

الحب Love

الحـب

(Love)
          الحب كلمة رقيقة تصف المشاعر الكامنة للكائنات، وتعبر عن ميل تجاه شخص (أو شيء)، وهذا الميل، غالباً، ما يكون مرتبطاً برغبة الاقتراب منه. ويصفونه بأنه سر غامض، في محاولة لإضفاء قدسية عليه، أو لعدم كشف أغوار النفس وفضحها، وما يكمن خلف الحب، لأن ذلك يجرد الحب من الهالة الضخمة، التي نسجت حوله على مر القرون والأزمان. فمن لديه الشجاعة أن يعلن لمن يرتبط بها أن الحب وهم كبير، وأن ما يشعر به تجاهها، وما تشعر به تجاهه، إنما هو وهم صنعاه وعاشا فيه معاً؟! ومن لديه الشجاعة أن يقول لأمه إنها تحبه بدافع من أنانيتها، لأنه امتداد لها؟! ومن لديه الشجاعة أن يعلن ذلك، كتفسير لكل علاقات الحب المُدّعاة من قبله أو من قبل الآخرين؟!
          ولكي نفهم طبيعة الحب، علينا أن نتتبع رحلته مع الإنسان منذ مولده، لنرى هل هو فطرة خلقت بداخلنا؟ أو أنه وهم نعيشه؟ أو هو شعور داخلنا نسقطه على الآخرين؟ أو أننا اخترعناه لكسر حدة الشعور بالوحدة؟
          بداية، بعد أن يولد الطفل، لا يدرك من حوله، لذا، فهو لا يشعر إلاّ بنفسه، وبحاجته هو، من دون غيره. فعندما يشعر بالجوع، يبكي ويظل كذلك من دون مراعاة لمن حوله، إلى أن تأتي أمه، فتطعمه، فيهدأ. ويتكرر الشيء نفسه عندما يشعر بالخوف، إذ تأتي الأم لتهدئته.
          ونلاحظ من ذلك، أن كل حبّه يتوجه إلى نفسه، وارتباطه بالأم الذي يبرز بعد فترة من ولادته، إنما هو ارتباط بمن يشبع له حاجاته. والدليل على ذلك، أنه لو ولدته أم وأعطته لأخرى تعنى به، فإنه سيرتبط بمن اعتنت به وأشبعت حاجاته. إنه حبٌّ من أجل نفسـه، وحفاظٌ على بقائه. وهذه الظاهرة يسميها علماء النفس "النرجسية الأولية"، أي حب الذات الأولى (Primary Narcissism)، وهو غريزي من أجل البقاء، ويظل الطفل على هذه الحال، من حبه لنفسه فقط، إلى أن يدرك أن هناك آخرون، هم أمه وأبوه وأخوته، ولكنه يظل على أنانيته، فيرغب أن يكون كل شيء له وحده، كل اللعب وكل الحلوى. فإذا أحضر له والده قطعة من الحلوى، فإنه يرفض إعطاء أخيه جزءاً منها، وهنا تتدخل الأم، في محاولة لجعله يتنازل عن جزء من حلوته مقابل حبها له وحب أخيه، وأنها ستحضر له حلوى، مرة أخرى، إذا أعطى أخيه جزءاً الآن. فيتنازل الصغير عن جزء من الحلوى، أي أنه يتنازل عن جزء من حبِّه لنفسه، يعطيه للآخرين، كي يأخذ من الآخر مقـابلاً لهذا الحب. هذا المقابل قد يكون مادياً، كإحضار حلوى له مرة أخرى، أو معنوياً، يتمثل في رضاء الأم وحبِّها له. وهكذا يحوز الطفل القبول الاجتماعي، داخل الأسرة وخارجها، بتنازله عن جزء من حبِّه لنفسه، وهو ما نسميه "النرجسية الثانوية" (Secondary Narcissism)، وتعني حب النفس من خلال الحصول على الحبِّ من الآخرين.
          وعندما يشب الطفل، يكون البلوغ، إذ تُفرز الهرمونات الجنسية، فتحرك شهوته وميوله تجاه الجنس الآخر (Heterosexual Inclination ) لكنه يتعلم من المجتمع، أن الميول الجنسية شيء مخجل، ولا يُقبل التعبير عنه بشكل مباشر، وإنما المقبول هو الحب الذي يتغنى به الناس، ويعبر عن الميول نفسها. فيستخدم كلمة الحب للتعبير عن ميوله وغرائزه، التي تحركت بعد البلوغ، والعجيب أن تلك المشاعر أحياناً تكون موجهة نحو بنت الجيران، التي كان يلعب معها، قبل البلوغ، ولم تكن سوى رفيقة لعب، وكثيراً ما كان يضربها، أي أن الذي غير موقفه، هو هرمون الذكورة الجنسي (Testosterone)، ولو أعطى، فرضاً، هرمونات أنثوية (Estrogen & Progesterone)، لأحب ابن الجيران بدلاً من بنت الجيران.
ونلاحظ، من خلال عرضنا لرحلة الحب مع الطفل والمراهق، ما يلي:
  1. الأساس أن الطفل يحب نفسه.
  2. يتعلم الطفل أن يتنازل عن جزء من حبه لنفسه، يوجهه للآخر، كي يأخذ من الآخر مقابلاً لهذا الحب، سواء كان المقابل مادياً أو معنوياً.
  3. يعبر المراهق عن رغبته الجنسية بكلمة الحب.
          ومن هذه الملاحظات الثلاث، نخلص إلى أن الحب إنما هو حب النفس في المقام الأول، ويحب الشخص آخر كي يحصل على مقابل لهذا الحب، هذا المقابل هو الإشباع المادي أو المعنوي. والأدلة على ذلك ليست قليلة منها:
  1. ما يتردد في أقوال الناس، كثيراً، وفي صراحة ووضوح، (أحبك قوي قوي، أكثر من نفسي لا).
  2. قد يختفي الحب، أو تقل حدّته، بعد تحقق الإشباع، مثل الإشباع الجنسي، الذي يتحقق بعد الزواج، فتنطفئ  جذوة الحب المتقدة، ويحل الفتور بعد الشوق والهيام، بل أحياناً يصل الأمر إلى الملل والطلاق.
  3. عند اكتشاف المحب خيانة محبوبه، ينقلب هذا الحب إلى عداء قد يصل، أحياناً، إلى درجة القتل أو التشويه.
  4. عندما يختلف الحبيبان، لسبب ما، فإن كل منهما يتعصب لرأيه، ويتعاطف مع نفسه، وينحاز إليها، أكثر من تعاطفه مع الطرف الآخر.
  5. في حالات الفراق، واختفاء المحبوب، من دون أمل في عودته، يكون النسيان وإحلال البديل.
ولكن ما هي دوافع الحب المعنوية؟
          إنها الحاجات النفسية (Psychological Needs)، التي يرغب الشخص في إشباعها، سواء كان واعياً بها، أي في مستوى عقله الظاهر، أو غير واعٍ بها، على مستوى عقله الباطن. وأشهر الدوافع النفسية للحب، هي حب فتاة لرجل في سن أبيها، كبديل للأب، أو حب فتى لامرأة في سن أمه، أو أكبر منه بعدة سنوات، كبديل للأم. إنها الــرغبة في أن يظل كل منهما مستشعراً لحنان الأب، أو الأم، في مقابل طفولته. ولو فُرض أن الأكبر تحمل طفولة الأصغر، فإن الأصغر قد ينضج ويصبح في غير حاجة لحنان أب أو أم، وهنا يثور ويبحث عن آخر يكون نداً له.
          ومن بين الحاجات النفسية فارس الأحلام أو فتاة الأحلام، التي يحلم بها المراهق (أو المراهقة)، وعندما تجد هذا الفارس، فإنها تهيم به حباً من أول نظرة له، ويطلق البعض عليه الحب من أول نظرة. ولقد تكونت صورة فارس الأحلام في عقل الفتاة عبر سنوات حياتها السابقة، بدءاً من الطفولة، عندما كانت تمر بمواقف أو أحداث تجعلها تميل لملامح معينة في الشكل والشخصية. فالطفل عندما يلقى معاملة طيبة من شخص، فإنه يطمئن إلى هذا الشخص، وترتبط ملامح هذا الشخص في ذهنه بالمعاملة الطيبة، وتظل تتجمع في ذهن الفتاة ملامح كل من تطمئن إليهم، حتى تتكون في النهاية لديها صورة مفضلة، لشخص يبعث في نفسها الإحساس بالأمان والثقة، وتود الارتباط به. وهذه الصورة قد تكون واضحة في ذهن الفتاة، وقد تكون غير مكتملة الوضوح، والشيء نفسه يحدث للفتى فيما يتعلق بفتاة أحلامه.
          كما نلاحظ حباً مبنياً على خبرات سابقة ليست خاصة بالشخص نفسه، بل مضافاً إليها خيال المراهقة وأحلام اليقظة. وما بُني على الخيال، فقط، لا يصلح أساساً للواقع، فقد يكون من طرف واحد، ومن خيال أحد الطرفين، دون الآخر. وإذا كان من الطرفين، فإنه خيال مراهقة، ويفترض كل منهما أن يجد في الآخر المواصفات التي تخيلها، وهذا نادراً ما يتحقق. لذلك، غالباً ما يُصدم كل منهما في الآخر، وسرعان ما يموت الحب، الذي كان متوهماً، لأن كل منهما يحب تحقق الصورة التي في داخله عن شخص الآخر، وإذا لم تتحقق، يكون الإحباط، الذي يولد العدوان بدلاً من الحب.
          أمّا دوافع الحب المادية، فهي حاجات الإنسان المادية، من جنس ومال ومكانة اجتماعية، فكثيراً ما تكون تلك الماديات دافعاً للحب، بحثاً عن إشباع تلك الحاجات.
          وإذا كان ما سبق تقسيم للحب على أساس الدوافع، فإن هناك تقسيماً آخر لأنواع الحب، طبقاً لشخص المحبوب. فهناك الحب العاطفي، وحب الأصدقاء والأخوة والأبناء، وحب الوطن، وحب الإنسانية، وحب الوالدين، وحب الله.

1. الحب العاطفي

وهو الحب بين رجل وامرأة، وتلعب فيه الحاجات المادية، من غريزة جنسية أو غيرها من حاجات الحياة، دوراً. كما يضطلع البناء النفسي، وحاجات الإنسان المعنوية، بالدور الأكبر في هذا النوع من الحب.

2. حب الأصدقاء والأخوة الأبناء

إذ يرى الشخص نفسه في أخيه أو صديقه أو ابنه، إمّا لأنه يشبهه، أو ينتمي إليه، حيث يعيد معايشة صورة الذات في شخص المحبوب، أو يتفق معه في تفكيره ومشاعره، أو يختلف عنه فيكمله، أو لأن كل منهما يوجد في الصورة، التي كان يرغب الآخر في أن يكونها.

3. حب الوطن

وهو حب لِما ينتمي إليه الشخص، من أرض يتوارى في ترابها رفات آبائه وأجداده، ويرتبط بها بذكريات طفولته، وأيام شبابه، ولو كان منتمياً لوطن آخر لأحبه الحب نفسه.

4. حب الإنسانية

وهو حب لقِيم وأخلاقيات زرعها المجتمع في نفس الطفل، عندما علمه كيف يتنازل عن جزء من حبه لنفسه، ليحب به الآخرين، كي يأخذ حبّاً مقابلاً، وقبولاً أكثر من المجتمع، ويكفيه في ذلك أن يرضي جهاز قيمه الداخلي (ضميره) ليشعر بالراحة.

5. حب الوالدين

هو عرفان بالجميل لمن دعونا في طفولتنا، وأصبحت ترتبط صورتهما في أنفسنا بالحنان والرعاية والأمان، التي كثيراً ما عشناها معهما في طفولتنا، وكثيراً ما رأينا أبناء يكرهون آباءهم لأنهم لم ينالوا منهم ما كانوا يبغون من رعاية، وفي حالات التبني للأطفال الرضع يحبون من ربّاهم ورعاهم، ولا يلتفتون إلى آبائهم البيولوجيين (الحقيقيين).

6. حب الله

هو جزء من الإيمان، وشرط لاكتماله، وشكر لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، أو طمعاً في جنته، أو خوفاً من عقابه. وهو في كل الأحوال لمصلحة الإنسان ومنفعته في الدنيا، بشعوره أنه في معية الله، فيشعر بالأمان والاطمئنان، وتغشاه السكينة، كما هو لمصلحته ونفعه في الآخرة، فهو الآمن، في يوم الخوف العظيم. وجزاء هذا الحب، الجنة التي وعد الله بها المؤمنين.
          ومكـان الحـب ليـس في القلب (Heart)، كما صور ذلك الشعراء، ولكنه في المخ، فما القلب سوى عضلة (Cardiac Muscle)، تدفع الدم إلى جميع أجزاء الجسم، أما الدماغ  (Brain)، فهو مركز الانفعالات والعواطف ومصدرها، وليست نقطه بعينها داخل الدماغ، ولكن هناك مجموعه من التراكيب داخل المخ ترتبط ببعضها، يطلق عليها العلماء الجهاز الانفعالي (Emotional System)، أو يطلق عليها الجهاز الطرفي (Limbic System)، وهذه المجموعة لا تقوم بوظيفتها منفصلة، ولكنها ترتبط بقشرة المخ (Cerebral Cortex) كما ترتبط بالغدة النخامية (Pituitary Gland)، سيدة الغدد في الجسم، وتوجد أسفل المخ، على قاع الجمجمة (Base of the skull) وعندما يرى الشخص محبوبه، فإن الرؤية تمر عبر جهاز الإبصار، إلى قشرة المخ البصرية (Visual Cortex)، التي تستخرج من أرشيف الذاكرة (Memory) ما يرتبط بشخص المحبوب من انفعالات وأفكار، فتتولد شحنه تصل إلى الجهاز الانفعالي، الذي ينشط، فيولد انفعالاً يسرى في أجهزة الجسم المختلفة، ومنها القلب، الذي يختل إيقاعه، فتزداد سرعته، وتشتد ضرباته، وهذا كله يحدث في سرعة خاطفة، لدرجة أن الشعراء ربطوا بين تغير ضربات القلب (Heart Beats)، وبين شخص المحبوب، ومن ذلك قول أحدهم (بانت سعاد فهاج القلب من بان).
ويتساءل أناسُ: هل من وسيلة لكبح جماح الحب؟
          إن فهم الدافع الداخلي للحب، فهماً واضحاً، من دون لبس، يقلل كثيراً من حدة الحب، ويخلصه مما يشوبه من خيال، وينزل به إلى أرض الواقع. فالخيال هو المسؤول عن اشتعال نار الحب، إضافة إلى أن الإشباع للحاجة الدافعة للحب، غالباً ما ينهي الحب ويطفئ جذوته. ونلاحظ أنه كلما كانت دوافع الحب معنوية، وعلى عمق لاشعوري (Deep Unconscious)، كلما كان الحب رومانسياً يصعب فهمه، ومن ثم تستعر جذوته.
          وقد يشكو بعض الناس من حب التملك الخانق، الذي يطوق به الطرف الآخر، وهذا يرجع إلى أن المحب عندما كبر وأحب آخر، كان بالنسبة له شيئاً مشبعاً كقطعة الحلوى (السابق الإشارة إليها)، فإذا كان أنانيا (أي أن نرجسيته الأولية عالية)، فإنه يريد الشخص كله لنفسه، ويستأثر به من دون الآخرين، حتى ممن لهم حقوق عليه، مثل الوالدين والأخوة والأصدقاء، لأنه لا يشعر إلا بحاجته هو، تحت شعار الحب والغيرة.
          والحقيقة غير ذلك، فهي أنانية لم تُهذّب منذ الطفولة، أو أنها هُذّبت تحت ضغط الواقع، كما يحدث كثيراً، ولكن بعد الزواج نكص (Regressed)، الشخص في علاقة إرتباطية تعويضية لعلاقة الأم (أو الأب). ولذلك، فإننا نرى بعض الأزواج والزوجات يرتبطون بالآخر بشكل مرضي، وليس حبّاً للطرف الآخر، فحب الآخر يعني، منطقياً، حب رفاهيته وسعادته، ولكن في عرف الأنانيين، يعني تملكه من دون الآخرين، لدرجة أن هناك مثل شائع يجعل موت الآخر أفضل من تركه، وهو عن المرأة التي تقول في مقولة شائعة (جنازته ولا جوازته أي من امرأة غيرها)، وتقصد بذلك زوجها الذي تحبه (من وجهة نظرها). ولذا، فإن هذا ليس حبّاً، بقدر ما هو أنانية تنطوي على عدوان، يصل إلى درجة الموت للمحبوب. وهذا يخالف موقف المُحِبّة الحقيقية، التي تنشد الرفاهية لمن تحب أيّاً كان، والتي يجسدها موقف المرأة التي كانت في نزاع على ابنها، مع أخرى تدعي، كذلك، أنه طفلها، فقال القاضي، مختبراً لمشاعرهما تجاهه، نشطره نصفين لتأخذ كل امرأة نصفه، فصاحت الأم الحقيقية المُحِبّة رافضة ذلك، وموافقة أن تتركه للأخرى، على أن لا يموت.
          لذلك، فإن حب تملك الطرف الثاني، إلى درجة خنقه وعدم إعطائه قدراً كافياً من الحركة والحرية، هو أنانية وعدوان تجاه الآخر، وإن كان ظاهره حبّاً. وهناك بعض الحالات المريضة، فعلاً، التي، من خلال مرضها، يظهر عرض حب التملك والاستحواذ، وعدم القدرة على الانفصال، ومنها قلق الانفصال (Separation Anxiety) إذ لا يستطيع المريض الانفصال عن الشخص موضوع الارتباط، وذلك لتعرضه لصدمات انفصال تمت في طفولته لموت أو سفر، أو بسبب اعتماده الشديد، في طفولته، أو تعلم هذا من أحد الوالدين. كما أن المريضة بالهلع (Panic)، وهو حالة شديدة من القلق، قد ترتبط بشريكها، ولا ترغب أن يغادرها كي لا يصيبها مكروه. وعلاج ذلك يكمن في تنمية نضج المريض، واعتماده على ذاته، وتقليل نكوصه، ومساعدة عقله في السيطرة على مشاعره الطفولية التي قد تدمر حياته.

الحب والكراهية

          قد يكون الحب غطاءً للبغض والكراهية. وهذا يندرج، في علم النفس، تحت ما يسمى بالتكوين العكسي (Reaction Formation)، وهي حيلة دفاعية (Defensive Mechanism)، فمثلاً، البنت التي تغار من أخيها الأصغر، الذي أخذ مكانها من الحب والاهتمام، قد تظهر حبّاً مبالغاً فيه لهذا الأخ، إخفاءً
للكراهية التي تستشعرها تجاهه، وتخاف عليه منها. ويتم هذا لا شعورياً، وعلى مستوى العقل الباطن.
          وقد يكون الحب ضرباً من الجنون (المرض الذهاني) (Psychotic Disorder)، وذلك حالة ضلال الحب (Delusion of Love)، وهو ما يوجد ضمن حالات الاضطراب الضلالي، ويعرف بهوس المحب (Erotomania)

هل المرأة أكثر حباً ورومانسية من الرجل؟

          قد يتُصور، بشكل عام، أن المرأة عاطفية رومانسية، تُعطي للناحية العاطفية الوزن الأكبر في الأمور. وهذا يصدق على المرأة عندما تكون بعيدة عن الواقع، وغير مرتبطة بمشكلاته، أو بمعنى أوضح عندما تكون حالمة، لا تحمل مسؤولية، تنتظر فارساً يخطفها على حصان أبيض، أي عندما تكون مفرطة في الخيال، تعيش أحلام اليقظة، أكثر من معايشتها للواقع، بما يحمله من تبعات ومسؤوليات. ولكن الواقع يشهد أن هذا ليس قاصراً على المرأة، فهناك الكثير من الرجال ممن يعيشون بالطريقة نفسها، بل إن أكثر القصص رومانسية، سجلها رجال لتجارب شخصية عايشوها أو شهدوها عن قرب لأقرانهم من الرجال.
          وفي قصص الحب العربية الشهيرة، كان الفتى، دائماً، هو الهائم في بحور من خيال الحب، يُنشد الشعر في محبوبته، أو يهيم على وجهه، كما فعل قيس بن الملوح، و"كثير" المتيم بعَزّة، لدرجة أنه سمى بكثير عزة. لذا، فليست المرأة رومانسية، والرجل واقعياً، أو العكس، ولكن يتفاوت واقعية كل منهما حسب درجة اقترابه من الواقع وتحمله للمسؤوليات.
          ولذا، فإن المحك الأساسي هو مدى تحمل كل طرف لمسؤوليات ترتبط بالواقع، فلنأتي بأكثر الرجال رومانسية، ونعطيه مسؤولية مادية، ليتولى الإنفاق على أسرة، مثلاً، من خلال عمل ينشغل فيه بحق، فإنه سرعان ما يصبح واقعياً. والشيء نفسه يحدث بالنسبة لأكثر النساء رومانسية. لذا، تُصبح الرومانسية من عدمها، نمط حياة، وطريقة للمعايشة، يختارها الشخص طبقاً لتربيته، وما عوده والداه. فالطفل الذي يتحمل مسؤولية ويشبّ على ذلك، ويكون منشغلاً وغير محبط، يعيش الواقع، ويرتبط به، ولا يهرب منه إلى عالم الرومانسية الخيالي، لأن الإحباط يجعل الشخص يهرب من الواقع، كما أن التربية تعوّد الطفل أيهما يستخدم أكثر في تعامله اليومي، العقل أم العاطفة والانفعال، وطبقاً لذلك يشبّ خاضعاً لعقله أو عاطفته.

هل الرجل أناني (أكثر حباً لنفسه) من المرأة؟

          يُقصد بالأنانية، هنا، حب الذات الذي يطغى على طباع الشخص في تعامله مع الآخرين، والأنانية كجزء من الطباع، تعتمد، أساساً، على طريقة التنشئة، وإلى أي حدٍّ يُنَميِّ لدى الشخص إحساسه بذاته، وانحيازه لها، وبعده عن مراعاة الآخرين واحتياجاتهم، فإذا عودنا الطفل أن تُشبع احتياجاته هو، أولا، حتى لو كان على حساب الآخرين، فإنه سوف يتقمص مبدأ (أنا وبعدي الطوفان).
          وللأسف الشديد، نحن ما زلنا كمجتمع شرقي، يحب الأبناء الذكور، ويرفع من قِيمتهم فوق الإناث، ويعطي الأولوية للولد على أخته، بل يجعله يتحكم فيها، حتى لو كانت أكبر منه سناً، وأحسن منه تصرفاً، فقط لأنه ذكر، بل وتخدمه. وكانت، إلى عهد قريب، لا تجرؤ أن تأكل معه، فبعد أن ينتهي من أكله، تجلس لتأكل ما تبقى، وهذا ما يزال سارياً في بعض المجتمعات.
          لا شك أن هذا الأسلوب في التربية، سيجعل الولد أنانياً، يفضل نفسه على غيره، ولكن، من أعطاه هذا التفضيل، إنها هي، المرأة، في صورة الأم، لأنها ترى المجتمع يحكمه الرجال، فهم يضعون القوانين وينفذونها، وهي، أي الأم هنا، واقعية، ولكن، لكي تجعله رجلاً قادراً على العطاء، عليها أن تربي فيه مراعاة احتياجات الآخر، لأنها، هي، نفسها، آخر بالنسبة له، وعندما تكبر، هي في حاجة لرعايته لها، ولو كان أنانياً، فالويل لها. ومن ثم، فإن الرجل ليس أنانياً في صورته الجينية، (Genetically)، ولكنها التربية هي التي تنمي الضمير، وتهذب من الغرائز والاحتياجات، وترسي أُسس الأولويات لديه.
          وبعد، فإن الصراحة والموضوعية المنطقية والتحليلية البحتة، عند البحث في الحديث عن الحب، والبُعد عن الخيال الأسطوري للحب، قد يجرد الحب من قدسيته، ويهوى به إلى أرض الواقع. هذه القدسية، التي اعتدناها من الشعراء والأدباء، إذ جعلوا الحب صنماً ضخموا في قدسيته بالقصائد الطوال وأساطير الخيال، ولكنه، في الحقيقة، شكل آخر من أشكال الأنانية وحب الذات (نرجسية ثانوية)، شكل يساعدنا على التكيف والاستمرار في هذه الحياة، وهو ضروري ليجعلنا نتحمل إحباطات الحياة، ونستطيع العيش فيها، ولكن إذا أصبح الحب نفسه هو المحبط، فتوضيح حقيقته على هذه الصورة، قد يكون معيناً على مواجهة ذلك الإحباط. إنها نفس الإنسان البالغة التعقيد. وتلك هي حقيقة الحب، التي ستكون مرة لأُناس، وبلسماً وشفاءً لآخرين.